من الصعب أن ينظر المرء إلى السنوات العشر الماضية، دون أن يذكر قول الشاعر "دبليو. إتش. أودين" عندما نظر إلى عصره في يوم معتم من شهر سبتمبر من عام 1939 فجادت قريحته الشعرية بالقول: كم هو مرتعش مرتعب هذا العقد في هذا المنحدر من الشارع الثاني والخمسين كم هو مخادع زلقٌ وقد تسربت الآمالُ من بين يديه! ولكن إن كنا نبحث عن رمزية أدبية للعقد الماضي، فلن يكون مصدر إلهامها الشاعر "أودين"، بقدر ما سيلهمها عمل الكاتب هيرمان ميلفيل الذي يحمل عنوان "الرجل الثقة". فمن "بيرني إيبرس" و"ورلدكوم" إلى صبية "إنرون" وصولاً إلى خدعة مشروع "مادوف" الوهمي، وانتهاءً بجورج بوش وشريكه ديك تشيني اللذين خدعا أميركا كلها ورميا بها إلى أتون حرب العراق، فلا وصف أفضل للعقد الماضي من القول، وبضمير مرتاح، إنه كان عقد الخداع. وهل من خداع أكبر وأشد دماراً من إعطاء عامة الأميركيين انطباعاً كاذباً بأن السنوات الماضية كانت فترة للرخاء العام المزعوم، تستطيع خلالها أعداد متزايدة من الأميركيين نيل نصيبها من الحلم الأميركي القائم على الأمان المالي؟ وبعد أن صدق الكثير من الأميركيين هذه الخدعة، تبين لهم في نهايات العقد الماضي أنه كان كارثة ماحقة خربت الكثير من البيوت والعائلات، على رغم خطابية "وول ستريت" وثرثرة البيت الأبيض الطنانة عن عصر الازدهار الاقتصادي المزعوم. سجلوا عندكم الآن بعض الأرقام والتفاصيل، فهذه هي المرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية التي ينخفض فيها متوسط ثروات الأميركيين بنسبة 13 في المئة، حسب التقارير الصادرة عن وزارتي التجارة والعمل. وعلى سبيل المقارنة ولكي ندرك كم هو كارثي هذا التراجع الذي حدث لثروات الأميركيين خلال السنوات العشر الماضية، لنذكر أن تلك الثروات كانت حققت نمواً في متوسطها العام بلغت نسبته 44 في المئة خلال عقد التسعينيات و35 في المئة في عقد الثمانينيات و12 في المئة خلال عقد السبعينيات. كما كان معدل نمو الثروات نفسها 25 في المئة في عقد الستينيات -على رغم فترة التضخم الاقتصادي المالي التي شهدتها سنوات إدارة كارتر- بينما كانت نسبة نمو هذه الثروات 26 في المئة في عقد الخمسينيات. كما لم تكن صورة العمل والعمالة أفضل حالاً من الثروات والدخل القومي. فعلى رغم نمو الكثافة السكانية الأميركية بمعدل 35 مليون نسمة منذ عام 2000، لم ترتفع نسبة العمالة إلا بنسبة 0.5 في المئة خلال السنوات العشر الماضية. ومنذ أن بدأت الحكومة الفيدرالية رصد هذه الإحصاءات للمرة الأولى، تواتر تسجيل انخفاض واضح في وظائف القطاع الخاص. وبالمقارنة يلاحظ أن نسبة نمو العمالة خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات كانت 20 في المئة، بينما وصلت إلى نسبة 31 في المئة في عقد الستينيات. وبسبب تنصل القطاع الخاص من التزاماته التقاعدية إزاء عامليه، اضطر عشرات الملايين من الأميركيين العاملين في القطاع الخاص إلى إيداع مستحقاتهم التقاعدية لأسواق المال، وهو ما أسعد كثيراً أسواق "وول ستريت" التي تدفقت عليها العائدات الضخمة من الرسوم والعمولات المفروضة على تلك الإيداعات، بينما كانت تلك الخطوة، في جوهرها، كارثة على عائلات العاملين، وخاصة أن العقد الماضي قد انتهى دون أن تحقق البورصات والأسواق المالية أية عائدات تذكر للمضاربين. وفي المقابل حققت حفنة قليلة من الأميركيين المحظيين فوائد مالية كبيرة وحصرية لصالحها وحدها. وحسب تحليلات الاقتصاديين إمانويل سيز وتوماس بيكيتي -من مدرسة باريس الاقتصادية- فلم تزد نسبة الذين حققوا أعلى عائدات مالية بنهاية العقد بمعدل 0.1 في المئة عن 8.2 في المئة من إجمالي الدخل الأميركي السابق للاقتطاعات الضريبية. وفي رأيهما أن هذه النسب تمثل أعلى تركيز للثروة في التاريخ الأميركي منذ عام 1917. هذا وقد أشار روبرت رايخ -وزير العمل سابقاً في إدارة كلينتون- مؤخراً إلى أن هذه العوامل مجتمعة لعبت دوراً رئيسياً، حتى لو كان صعب الملاحظة، في الأزمة المالية الحالية التي تعانيها أميركا. فعلى رغم أن غالبية العائلات الأميركية لم تخل من اثنين من العاملين فيها على الأقل طوال سنوات العقد الماضي، إلا أنه تعينت على الكثير منها الاستدانة حتى تتمكن من المحافظة على مستواها المعيشي. وبالنتيجة تجاوز الكثير من الأميركيين أرصدة بطاقاتهم الائتمانية وأعادوا رهن بيوتهم، مع العلم أن في هذا التدبير الأخير بالذات مخاطرة كبيرة في وقت انهارت فيه أسعار البيوت تماماً. وبسبب الركود الذي أصاب الوظائف والاقتصاد القومي عموماً، لم تجد العائلات ما ينجيها من الكارثة. وكذا كان حال أصحاب العمل أنفسهم. فبينما افتقر الكثير من المديرين وأصحاب العمل إلى الموهبة التي تمكنهم من تنمية ثرواتهم وأعمالهم على رغم الركود، أصبح في وسع الكثيرين منهم المحافظة على ارتفاع ربحيتهم من خلال التخلص من أعداد كبيرة من عامليهم، وإساءة استغلال الباقين منهم، بعد تجريدهم بسلاح الخوف من التذمر أو الاحتجاج على سوء أوضاعهم، في وقت أصبح فيه احتجاج العامل ضماناً مؤكداً لتسريحه من العمل. وإلى هذا السبب تردت العائدات الإنتاجية المذهلة التي تحققت خلال العديد من الأرباع السنوية الماضية. غير أن مظاهر التعافي الاقتصادي البطيء من تأثيرات الأزمة المالية والاقتصادية هذه، ليست سوى نسخة القرن الحادي والعشرين الجديدة من آليات تسريع النمو الاقتصادي التقليدية التي عرفناها في فترات مشابهة مر بها اقتصادنا القومي في القرن العشرين. ولأن عدداً من كبار المسؤولين التنفيذيين بالحزب "الديمقراطي"، ابتداءً بالرئيس أوباما نفسه، أكدوا أن أولويتهم القصوى خلال العام الحالي وما يليه من أعوام هي خلق المزيد من الوظائف ذات الدخل اللائق بالعاملين. ولما كان العقد الماضي كله عقداً للخداع الاقتصادي المالي، فلا شيء يفوق حاجتنا لتحقيق هذا الوعد في الوقت الحالي. تم روتن كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"